إن العالم البصير بأصول الإسلام وفروعه لن يخطئه إدراك ما انضاف إلى هذا الدين، من محدثات ليست منه، شابت صفاءه، ونفَّرت منه، وأساءت إلى حقيقته وصورته جميعا..
وهذه الزيادات التي ابتدعها الناس، وضموها إلى ما شرعه الله لعباده، تبعث على وجوه من التأمل.. لماذا يأتي الإنسان بجديد من عنده، يخلطه بالدين ليكون له ما للدين من قداسة؟!
ألنقص رآه في التعاليم التي أنزلها الله؟ إن كان ذلك هو الباعث على الابتداع فهو حمق كبير؛ ذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. فمَن زعم أن في تعاليم الإسلام قصورًا أو نقصًا، يجعلها بحاجة إلى زيادة حتى تصلح لتهذيب النفوس، وإسعاد الجماعات، فهو جهول كفور.
وأغلب الظن أن جمهور المبتدعين يستحدث ما يراه غلوا منه في الدين لا اتهامًا له بالنقص. والغلو- في أمر ما- مزلقة إلى الخروج منه. وكم من مبالغة ضاعت فيها الحقيقة وثبت بها الباطل.
غالى النصارى فأشركوا، وغالى غيرهم فحَّرم الحلال. فنزل في الأولين قول الله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}. ونزل في غيرهم: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}.. ثم أمر الله عباده الصالحين أن يلتزموا طريقًا واحدة لا يحيدون عنها قيد أنملة؛ فإنهم لو حادوا عنها زاغوا، ورمتهم النوى في مطارح بعيدة {وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون}.
وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة بضرورة التمسك بسُّنته واتباع نهجه. روى مسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: [أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدى هَدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة].
وعن عبد الله بن مسعود- يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنما هما اثنتان: الكلام، والهَدى، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهَدى هَدى محمد. غير أنكم ستُحدثِون ويحدث لكم، فكل محدثة ضلالة، وكل ضلالة في النار].
وصور هذا الإحداث الذميم تتفاوت ضآلة وضخامة، ويتفاوت كذلك ما ينشأ عنها من عوج وضرر. وقد تربص العلماء بالتافه منها ينكرونه، حتى لا تكون الاستهانة به والغض من شأنه بابًا إلى الابتداع الواسع في العقائد والأحكام والعبادات والأخلاق "ومعظم النار من مستصغر الشرر".
رُويَ أن رجلا عطس بجانب عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله! فقال عبد الله بن عمر: ما هكذا علَّمنا رسول الله أن نقول إذا عطسنا، بل علمنا أن نقول: الحمد لله.
فابن عمر أبى السكوت على زيادة لا يرى البعض بها بأسًا، ورأى من واجبه أن يرشد الرجل إلى الوقوف على حدود السُّنَّة الواردة، فلا يقصر عنها ولا يزيد عليها.
ولو فتح الباب في هذه الزيادة، لاستحدث المتنطعون مقالات طويلة فيما يقول العاطس، ومقالات أطول في تشميته، ثم يتطرق الاستحداث من هذه الشئون اليسيرة إلى شئون أجَلَّ.
والمبتدع في الدين يعطي نفسه منزلة ليست له. فإن المشرّع الفرد لعباده جميعًا، هو الله عز وجل.
فكيف يجيء أحد- مهما كانت نيِّته ومنزلته- ليضم إلى أحكام الله أحكامًا من عند نفسه. ويقول: هذا حسن ينبغي فعله ويقبح تركه في أمر ما أنزله الله ولا استنّه نبيه؟! {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم}.
إن هذه النزعة إلى الألوهية يعدو بها الإنسان قدره ويجاوز حده؛ ولذلك اعتبر الرضا بها والسير معها اختلاق أرباب مع الله، يحلون ما حرّم ويحرّمون ما أحل.
روى الثعلبي عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، قال: يا عدى.. اطرح عنك هذا الوثن. قال: وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}. فقلت: يا رسول الله.. لم يكونوا يعبدونهم! فقال: [أليس يحرّمون ما أحل الله فيحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فيستحلونه]؟ فقلت: بلى. قال: [ذلك عبادتهم].
قال الألوسي: والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة، الذين تركوا كتاب الله وسُّنَّة نبيه لكلام علمائهم ورؤسائهم. والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه..
ولا شك أن التزيد على الدين ميل مع الهوى، وأن ترك الاتباع الدقيق جور عن الطريق: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون}.
والذين يختلقون هذه المحدَثات يحملون وزر ضلالهم الخاص، وتضليل الذين ينخدعون بهم ويستجيبون لهم. وفى الحديث: [من سنَّ سُنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها]. وقال الله عز وجل: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}.
لكل عبادة شعب من القلب تنزل به وتستقر فيه، ولها جهد يتعلق بها ويبذل في أدائها. ولن يكون للمرء قلبان، ولا يمكن أن تهبط عليه قوى غير ما أعد له وطبع فيه؛ ومن ثَمَّ فهو لا محالة بين وضعين: إما أن يتجه بقلبه وقواه إلى السُنَّة، وإما أن يتجه بهما إلى البدعة، وأي نشاط في هذين النهجين فهو على حساب الآخر، والذين يشتغلون بالمحدَثات ويتهاوون عليها يضيعون من حقائق الإسلام الصحيح، ومن فرائضه المحكمة بقدر ما عناهم من خرافات واستهواهم من بدع.
فليس خطر البدعة أنها وسخ يشوب وجه الحقيقة فحسب، بل هي مرض يفقد الدين عافيته وينقص قلبه وأطرافه ولذلك قال ابن مسعود: "الاقتصاد في السُنَّة خير من الاجتهاد في البدعة"، وقال: "ما أحدث الناس بدعة إلا أضاعوا مثلها من السُنَّة".
وروى أبو داود عن معاذ بن جبل أنه قال يوما: "إن من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر. فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأتُ القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره!! فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق".
وكلمة "معاذ" هذه تُفسِّر لنا كيف أن بعض أهل الدين- وخصوصا المتصوفة- ركّبوا أورادًا وأذكارا للعامة، كما يركّب الطبيب الجاهل أدوية سيئة، فيقبل عليها المفتونون بصلاح رؤسائهم، ويضيعون أوقاتهم سدى في أعمال ما طلبها الله في فريضة أو نافلة. وعلى قدر ما ينشغلون به في هذه الأذكار المبتدَعة ينسون من مطالب الإسلام الحقة ما يشفي نفوسهم ويرفع رءوسهم.
أخرج أبو داود أن رجلا أرسل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القَدَر فكتب إليه: "أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سُنَّة نبيه، وترك ما أحدَث المحدثون بعد ما جرت به سُنَّته وكَفوا مؤنته. فعليك بلزوم السُنَّة فهي لك- بإذن الله- عصمة. ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها. فإن السُنَّة إنما سَنَّها مَن قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق (يعنى التقعر). فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر قد كفوا، ولهم- على كشف الأمور- كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى"...إلخ.
وهؤلاء الذين عناهم عمر بن عبد العزيز، هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستمسكون بهديه، المقتفون أثره دون ميل أو جور.
ويوجد عند بعض الناس شغف بالابتكار والتجديد، وهذا أمر يقره الإسلام ويحتفي به. بيد أن ملكة الاختراع لها ميدان تستطيع الانطلاق فيه ولا حَجْرَ عليها، لديها شئون الدنيا وآفاق الحياة تعالجها، وتفترض فيها، وتبتدع ما شاءت.. وقد استغل الأجانب ملكاتهم في هذه الأنحاء، فأجادوا وأفادوا.
أما نحن فبدل أن نجمد على شئون الدين ونخترع في شئون الدنيا، قلبنا الآية، فاخترعنا في شئون الدين ما لا معنى له، وجمدنا في شئون الدنيا؛ فطار الناس بين الأرض والسماء وما زلنا ندب على الثرى...!!
ماذا لو اتبعنا فيما أنزل الله، وابتدعنا فيما وُكِّلَ إلى عقولنا وجهودنا؟!
أليس ذلك أرعى لديننا وأجدى على حياتنا؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب: أ.فتحي يكن رحمه الله
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية